وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لكم .. من المنظور الطبي الحديث
د / عبد الباسط محمد سيد
أستاذ ورئيس قسم الكيمياء الحيوية بالمركز القومي للبحوث سابقاً
ورئيس مجلس إدارة جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة
.......... الجزء الأول:
يظن كثير من الناس أن للصيام تأثيراً سلبياً على صحتهم، وينظرون إلى أجسامهم نظرتهم إلى الآلة الصماء، التي لا تعمل إلا بالوقود، وقد اصطلحوا على أن تناول ثلاث وجبات يومياً أمر ضروري لحفظ حياتهم، وأن ترك وجبة طعام واحدة سيكون لها من الأضرار والأخطار الشيء الكثير.. مما يجعلهم يقضون الليل في شهر الصيام يلتهمون كل أنواع الطعام والشراب.. وقد رسخ هذا الاعتقاد وظهرت آثاره السلوكية في الأفراد والمجتمعات كنتيجة طبيعية للجهل العلمي، بطبيعة الصيام الإسلامي وفوائده المحققة، وفي هذا اللقاء سنلقي الضوء على بعض أوجه الإعجاز العلمي في الصيام، وهي الأوجه التي تثبت بالدليل العلمي القاطع بطلان تلك الظنون الوهمية.
* الوجه الأول: الوقاية من العمل والأمراض:
أخبر الله سبحانه وتعالى أنه فرض علينا الصيام، وعلى كل أهل الملل قبلنا، لنكتسب به التقوى الإيمانية التي تحجزنا عن المعاصي والآثام، ولتتوقى به كثيراً من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة: 183].
وقال صلى الله عليه وسلم: ( الصيام جُنَّة )، أي وقاية وستر ، وقد ثبت من خلال الأبحاث الطبية بعض الفوائد الوقائية للصيام ضد كثير من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، ومنها على سبيل المثال – لا الحصر:
يقوى الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة، حيث يتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا الليمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسؤولة عن المناعة النوعية(T. lymphocyes) زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم، وتنشط الردود المناعية نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.
ومن الفوائد أيضاً: الوقاية من مرض السمنة وأخطارها، حيث إنه من المعتقد أن السمنة تنتج عن خلل في تمثيل الغذاء، فقد تنتج من ضغوط بيئية أو نفسية أو اجتماعية، وقد تتضافر هذه العوامل جميعاً في حدوثها، وقد يؤدي الاضطراب النفسي إلى حدوث خلل في التمثيل الغذائي... وكل هذه العوامل، التي يمكن أن تنجم عنها السمنة، يمكن الوقاية منها بالصوم من خلال الاستقرار النفسي والعقلي الذي يتحقق بالصوم نتيجة للجو الإيماني الذي يحيط الصائم وكثرة العبادة والذكر، وقراءة القرآن، والبعد عن الانفعال والتوتر، وضبط النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقات النفسية والجسمية توجيهاً إيجابياً نافعاً.
1- يقي الصيام الجسم من تكون حصيات الكُلى، إذ يرفع معدل الصوديوم في الدم فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم، كما أن زيادة مادة البولينا في البول تساعد في عدم ترب أملاح البول، التي تكون حصيات المسالك البولية.
2- يقي الصيام الجسم من أخطار المسموم المتراكمة في خلاياه، وبين أنسجته من جراء تناول الأطعمة – وخصوصاً المحفوظة والمصنعة منها – وتناول الأدوية واستنشاق الهواء الملوث بهذه السموم .
3- يخفف الصيام ويهدئ ثورة الغريزة الجنسية، وخصوصاً عند الشباب وبذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية، وذلك تحقيقاً للإعجاز في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء )، إذا التزم الشاب الصيام وأكثر منه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فعليه بالصوم )، أي فليكثر من الصوم.. وقد أُجرِيَ بحثٌ عن تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية وكانت له نتائج إيجابية، وسلط الضوء على وجه الإعجاز في هذا الحديث الشريف. وقد وجد أن الإكثار من الصوم، مع الاعتدال في الطعام والشراب وبذل الجهد المعتاد، يقترب من الصيام المتواصل، ويجني الشاب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر، كما لا يتعرض إلى أخطار هذا النوع من الصيام، وهذا البحث يجلي بوضوح الإعجاز في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( فإنه له وجاء) من وجهين:
الأول: الإشارة إلى أن الخصيتين هما مكان إنتاج عوامل الإثارة الجنسية حيث أن معنى الوجا أن ترض أنثيا الفحل ( خصيتيه) رضاً شديداً، يُذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي.
وقد ثبت أن في الخصيتين خلايا متخصصة في إنتاج هرمون التيستوستيرون (Testosterone)، وهو الهرمون المحرك والمثير للرغبة الجنسية، وأن قطع الخصيتين ( الخصى) يُذهب هذه الرغبة، ويخمدها تماماً.
الثاني:أن الإكثار من الصوم مثبط للرغبة الجنسية وكابح لها، وقد ثبت في هذا البحث هبوط مستوى هرمون الذكورة ( التيستوستيرون) هبوطاً كبيراً أثناء الصيام المتواصل، بل وبعد إعادة التغذية بثلاثة أيام، ثم ارتفع ارتفاعاً كبيراً بعد ذلك، وهذا يؤكد أن الصيام له القدرة على كبح الرغبة الجنسية مع تحسينها بعد ذلك، وهذا يؤكد فائدة الصوم في زيادة الخصوبة عند الرجل بعد الإفطار.
* الوجه الثاني: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }
بعد أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن الصيام يحقق لنا وقاية من العلل الجسمية والنفسية، ويشكل حاجزاً وستراً لنا من عقاب الله، أخبرنا جل في علاه أن الصيام خيراً ليس للأصحاء المقيمين فقط، بل وللمرضى والمسافرين أيضاً والذين يستطيعون الصوم بمشقة، ككبار السن ومن في حكمهم. قال تعالى: { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 184]. أي: فضيلة الصوم وفوائده، وذلك لعموم اللفظ في قوله تعالى: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }. وقد تجلت هذه الفوائد واستقر خبرها في زماننا هذا، لمن أوجب الله عليهم الصيام، ولمن أطاقوه من أهل ارخص الذين يستطيعون تناول وجبتي الفطور والسحور كالأصحاء.
بعض الأمراض الخطرة التي كان يخشى معها من الصيام:
• كان – وما زال – الأطباء يعتقدون أن الصيام يؤثر على مرضى المسالك البولية، وخصوصاً الذين يعانون من تكوين الحصيات، أو الذين يعانون من فشل كلوي، فينصحون مرضاهم بالفطر وتناول كميات كبيرة من السوائل.
• وقد ثبت خلاف ذلك، إذ ربما كان الصيام سبباً في عدم تكوين بعض الحصيات وإذابة بعض الأملاح، ولم يؤثر الصيام مطلقاً حتى على من يعانون أخطر أمراض الجهاز البولي، وهو مرض الفشل الكلوي مع الغسيل المتكرر.
• كان يعتقد أن الفقدان النسبي لسوائل الجسم وانخفاض عدد ضربات القلب وزيادة الإجهاد أثناء الصوم يؤثر تأثيراً سلبياً على التحكم في منع تجلط الدم، وهو من أخطر الأمراض، وقد ثبت أن الصيام الإسلامي لا يؤثر على ذلك في المرضى الذين يتناولون الجرعات المحددة من العلاج.
• ثبت أن الصيام لا يشكل خطراً على معظم مرضى السكر، إن لم يكن يفيد الكثيرين منهم.
بعض أمراض التي يعالجها الصيام:
يعالج الصيام عدداً من الأمراض الخطيرة من أهمها:
1- الأمراض الناتجة عن السمنة، كمرض تصلب الشرايين وضغط الدم وبعض أمراض القلب.
2- بعض أمراض الدورة الدموية الطرفية، مثل مرض الرينود (Rynaud`s diseade) ومرض برجر.
3- يعالج الصيام المتواصل مرض التهاب المفاصل المزمن ( الروماتويد).
4- يعدل الصيام الإسلامي من ارتفاع حموضة المعدة، وبالتالي يساعد في التئام قرحة المعدة مع العلاج المناسب.
5- لا يسبب الصيام أي خطر على المرضعات أو الحوامل، ولا يغير من التركيب الكيميائي أو التبدلات الاستقلابية في الجسم عند المرضعات، وخلال الشهور الأولى والمتوسطة من الحمل.
فوائد أخرى للصوم:
1- يُمَكّن الصيام آليات الهضم والامتصاص – في الجهاز الهضمي وملحقاته – من أداء وظائفها على أتم وأكمل وجه، وذلك بعدم إدخال الطعام والشراب على الوجبة الغذائية أثناء هضمها وامتصاصها، كما يحقق الصيام راحة فسيولوجية للجهاز الهضمي وملحقاته، وذلك بمنع تناول الطعام والشراب لفترة زمنية تتراوح من 9-11 ساعة بعد امتصاص الغذاء، كما تستريح آليات الامتصاص في الأمعاء طوال هذه الفترة من الصيام. وتتمكن الانقباضات الخاصة (Motor Complex Migrating ) بتنظيف الأمعاء من عملها المستمر، دون توقف.
2- يُمكّن الصيام الغدد الصماء ذات العلاقة بعمليات الاستقلاب، في فترة ما بعد الامتصاص، من أداء وظائفها في تنظيم وإفراز هرموناتها الحيوية على أتم حال، وذلك بتنشيط آليات التثبيط والتنبيه لها يومياً، ولفترة دورية ثابتة، ومتغيرة طوال العام، مثل هرمونيّ: النمو والإنسولين – كهرمونات بناء من ناحية – وهو موئي: الجلوكاجون والكروتيزول، كهرمونات هدم من ناحية أخرى، والذي يتوقف على توازنها الدقيق تركيز الأحماض الأمينية في الدم، توازن الاستقلاب .
3- ينشط الصيام آليات الاستقلاب أو التمثيل الغذائي ي البناء والهدم للجلوكوز والدهون والبروتينات في الخلايا، لتقوم بوظائفها على أكمل وجه.
4- أما إذا اقتصر الجسم على البناء فقط، وكان همه التخزين للغذاء في داخله، فإن آليات البناء تغلب آليات الهدم، فيعترى الأخيرة – لعدم استعمالها بكامل طاقتها – وهن تدريجي تظهر ملامحه عند تعرض الجسم لشدة مفاجئة بانقطاع الطعام عنه في الصحة أو المرض، فقد لا يستطيع هذا الإنسان مواصلة حياته، أو مقاومة مرضه.
5- يحسن الصيام خصوبة المرأة والرجل، على السواء .
6- يستفيد الجسم بالطاقة وتحسين القدرة على التعليم وتقوية الذاكرة.
7- تتهدم الخلايا المريضة والضعيفة في الجسم عندما يتغلب الهدم على البناء أثناء الصيام، وتتجدد الخلايا أثناء مرحلة البناء.
8- كذلك، فإن أداء الصيام الإسلامي طاعة لله وخشوعاً له ورجاء فيما عنده سبحانه وتعالى من والأجر والمثوبة، لعمل ذو فائدة جمة لنفس الإنسان وجسمه، حيث يبث في النفس السكينة والطمأنينة.. وينعكس هذا على آليات الاستقلاب. فيجعلها تتم في أوفق وأيسر وأنفع السبل، مما يعود بالنفع والفائدة على الجسم.
إن الصيام، كاقتناع فكري وممارسة عملية، يقوى لدى الإنسان كثيراً من جوانبه النفسية، فيقوى لديه الصبر والجلد والإرادة وضبط النوازع والرغبات، ويضفي على نفسه السكينة والرضا والفرح... وقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ).
9- ثبت بالدليل العلمي القاطع أن الصيام الإسلامي ليس له أي تأثير سلبي على الأداء العضلي وتحمل المجهود البدني، بل بالعكس فلقد أظهرت نتائج البحث القيم الذي أجراه الدكتور أحمد القاضي وزملاؤه بالولايات المتحدة الأمريكية أن درجة تحمل المجهود البدني – وبالتالي كفاءة الأداء العضلي – قد ازداد بنسبة 200% عند 30% من أفراد التجربة و7% عند 40% منهم، وتحسنت سرعة دقات القلب بمقدار 6% وتحسنت حصيلة ضغط الدم مضروباً في سرعة النبض بمقدار 12%، وتحسنت درجة الشعور بضيق التنفس بمقدار 9%... كما تحسنت درجة الشعور بإرهاق الساقين بمقدار 11% وهذا يبطل المفهوم الشائع عند كثير من الناس من أن الصيام يضعف المجهود البدني ويؤثر على النشاط، فيقضون معظم النهار في النوم والكسل.
* الوجه الثالث يسر الصيام الإسلامي وسهولته:
تشير الدراسات العلمية المحققة، في وظائف أعضاء الجسم، أثناء مراحل التجويع، إلى يُسر الصيام الإسلامي وسهولته، تحقيقاً لقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]. وفي تفسير هذه الآية قال الرازي: إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض ولا على المسافر .
كما يتجلى يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية. وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلاً، ولا يعتبر الصيام الإسلامي بهذا تغييراً لمواعيد تناول الطعام والشراب فحسب، فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام مدة طويلة، أو حتى لمدة يوم وليلة، تيسيراً وتخفيفاً على أمة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وقد تجلى هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر فقد قسمت المراجع الطبية التجويع إلى ثلاث مراحل: مراحل مبكرة، وثانية متوسطة، وثالثة طويلة الأجل.
وتقع المرحلة المبكرة بعد نهاية فترة امتصاص آخر وجبة ( أي عبد حوالي 5 ساعات من الأكل) وحتى نهاية فترة ما بعد الامتصاص، والتي تتراوح مدتها حوالي 12 ساعة، وقد تمتد إلى 40 ساعة عند بعض العلماء، فهذه الفترة يقع الصيام الإسلامي، كما يقع في فترة امتصاص الغذاء، وهذه الفترة من الانقطاع عن الطعام آمنة تماماً المقاييس العلمية، فالجلوكوز هو الوقود الوحيد للمخ، والدهون تتأكسد بالقدر الذي يولد أجساماً كيتونية بالدم أثناء هذه الفترة، كما لا يستهلك البروتين في إنتاج الطاقة بالقدر الذي يحدث خللاً في التوازن النتروجيني في الجسم. مما حدا ببعض العلماء أن يسقط فترة ما بعد الامتصاص من مراحل التجويع أصلاً، وهذه الحقيقة تجعل الصيام الإسلامي متفرداً في يسره وسهولته بعكس مراحل التجويع الأخرى.
من خلال عرض الحقائق السابقة، ندرك أن مدة الصيام الإسلامي والتي تتراوح من 12-16 ساعة في المتوسط، يقع جزء منها في فترة الامتصاص، ويقع معظمها في فترة ما بعد الامتصاص، ويتوفر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليكوجين وأكسدة الدهون وتحلها وتحل البروتين وتكوين الجلوكوز الجديد منه، ولا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي وظيفة من وظائفه، فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجساماً كينونية تضر بالجسم، ولا يحدث توازن نتروجيني سلبي توازن استقلاب البروتين، ويعتمد المخ البشري وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي على الجلوكوز وحده لحصول منه على الطاقة.
بينما لا يقف التجويع أو الصيام الطبي – القصير والطويل منه – عند تنشيط هذه الآليات، بل يشتد حتى يحدث خللاً في بعض وظائف الجسم، ويتيح الصيام الإسلامي تمثيلاً غذائياً فريداً، إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور، يبدأ البناء للمركبات الهامة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة – والتي استهلكت في إنتاج الطاقة – وبعد فترة امتصاص وجبة السحور يبدأ الهدم فيتحلل المخزون الغذائي من الجليكوجين والدهون ليمد الجسم بالطاقة اللازمة، أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام. لذلك كان حث النبي صلى الله عليه وسلم وتأكيده على ضرورة تناول وجبة السحور، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسحروا.. فإن في السحور بركة) متفق عليه. وذلك لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة مقدارها 4 ساعات، محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام.
وبهذا أيضاً يمكن تقليص فترة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على تعجيل الفطر حيث قال: ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) متفق عليه... وتأخير السحور، فقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم كان ينهما ؟ قال: خمسون آية) متفق عليه. وهذا من شأنه تقليص فترة الصيام – أيضاً – إلى أقل حد ممكن، حتى لا يتجاوز فترة ما بعد الامتصاص كلما أمكن، وبالتالي، فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكل ضغطاً نفسياً ضاراً على الجسم البشري، بحال من الأحوال، وبناء على هذه الحقائق يمكننا أن نؤكد أن الذي يتوقف أثناء الصيام هو عمليات الهضم والامتصاص وليست عمليات التغذية، فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية، وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها – من هذا المخزون بعد تحلله – والذي يعتبر هضماً داخل الخلية، فيتحول الجليكوجين إلى سكر الجلوكوز، والدسم والبروتينات إلى أحماض دهنية وأحماض أمينية، وذلك بفعل شبكة معقدة من الإنزيمات والتفاعلات الكيميائية الحيوية الدقيقة، والتي يقف الإنسان أمامها مشدوهاً معترفاً بجلال الله وعلمه وعظيم قدرته وإحكام صنعه.
فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم أن في الصيام وقاية للإنسان من أضرار نفسية وجسدية؟ ومن أخبره أن فيه منافع وفوائد يجنيها الأصحاء؟ بل ومن يستطيع الصيام من المرضى وأصحاب الأعذار !! ومن أخبره صلى الله عليه وسلم بأن الصيام سهل ميسور لا يضر بالجسم ولا يجهد النفس ؟ ومن أطلعه على أن كثرة الصوم تثبط الرغبة الجنسية ؟ وتخفق من حدتها وثورتها، خصوصاً عند الشباب !! وخصوصاً أنه نشأ في بيئة لا تعرف هذا الصيام ولا تمارسه.
........... وملتقانا في الجزء الثاني ..............
مع أطيب الأمنيات